الخارطة ليست المنطقة
نفضت الغبار عن بعض أفكاري لأجد هذه الفكرة ما تزال تتمتع بلمعانها وبريقها رغم تراكم الآراء والناس من حولي.
لازلت أتسائل كيف للناس البت في موضوع ما وهم لم يروا إلا قشوره ؟
قال الله تعالى في كتابه العزيز :
وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
[الإسراء 36] . وهذا يوجب استعمال الإنسان حواسه جميعاً للتحري عن الحقيقة.
الحقيقة الضائعة
الحقيقة ؟ هل هي نسبية لكل إنسان ؟ أم ثابتة ؟ أم مجرد مصطلح يدل به شيء لا أرضي ؟ ولا إنساني ؟
يقول ديل كارنيجي "إننا قلما نُعنى بالحقائق وإذا حدث أن حاول أحدنا استخلاص الحقائق فإنه يتصيد منها ما يفيد الفكرة الراسخة في ذهنه ولا يبالي بما ينقضها، أي أنه يسعى إلى الحقائق التي تسوّغ عمله، وتتسق مع أمانيه، وتتفق مع الحلول السطحية التي يرتجلها".
ويقول أندريه موروا "كل ما يتفق مع ميولنا ورغباتنا الخاصة يبدو معقولاً في أعيننا، أما ما يناقض رغباتنا بإنه يشعلنا غضباً"
إذا كانت الحقيقة هي (ما نريد سماعه فقط) فلماذا يقولون (الحقيقة مُرة) ؟
إذاً فالانسان لا يدرك تماماً ماهية الحقيقة، أو أنه يتناساها أغلب الأوقات. فما الذي يحل محل الحقيقة في عقل الإنسان ؟
قال محمد الغزالي "لا أعرف مظلوماً تواطأ الناس على هضمه، وزهدوا في إنصافه كالحقيقة !! . ما أقل عارفيها، وما أقل -في أولئك العارفين - من يقدّرها ويغالي بها ويعيش لها !! . إن الأوهام والظنون هي التي تمرح في جنبات الأرض، وتغدو وتروح بين الألوف المؤلفة من الناس. ولو ذهبت تبحث عن الحق في أغلب ما ترى وتسمع لأعياك طلابه".
من أين تأتينا هذه الأوهام و-الحقائق- الكاذبة ؟ ولماذا نسلم بها ونتبنى فكرة عن شخص آخر أو جهة معينة ؟
إن معظم ما يصلنا من معلومات - مرئية : كالتلفاز - سمعية : كالمذياع - بصرية : كالجرائد .. تشكل في عقل الإنسان العصري قوانين الحياة العصرية التي -غالباً- ما يسلم بها دون التحقق منها. ولهذا فقد باتت الطرق الإعلامية هي الأسهل للسيطرة على معتقد الشعوب والعامة، الذين بدورهم يتولون مهمة النقل فيما بعد، بل وتضخيم الأخبار والمبالغة بالأحداث ما يوافق تصورهم وتحليلاتهم وأذواقهم.
قال الله تعالى: وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ
[الأنعام : 116]
وكذلك: وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [يونس : 36]
ما العمل ؟ أهي طبيعة بشرية إذاً ؟ طالما أن الله عز وجل ذكرها صراحةً في كتابه العزيز ؟ وهل ستبق الحقيقة متلبسة الأثواب الذوقية والمصلحية لكل إنسان على حد؟
طائفة من الناس كانوا يعلمون حقيقة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، لماذا إذاً زاغوا عنها ؟
وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة : 42]
اتباع منهج الإسلام (الصحيح) يؤمن للإنسان إمساك الحقيقة من مخانقها، فقد ذكر الله تعالى في ختام العديد من الآيات تذييلاً لإرشاده إلى الحقيقة من مثل قوله:
كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
[البقرة : 219] ،
مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ [يونس : 3] كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ
[البقرة : 242]
بالإضافة لما يقدمه أندريه موروا من علاج : الفصل بين العاطفة والتفكير. واستخلاص الحقائق المجردة بطريقة محايدة.
الخارطة ليست المنطقة 2
هي القاعدة الأولى لعلم NLP . بينها ألفرد كورزبسكي بالشكل التالي "إن الخريطة هي إدراكك بينما المنطقة هي الحياة" . إن وجدت مدينة هراري الكاميرونية في الأطلس، وفرحت باكتشافك، وقرأت معلوماتها الجغرافية والسياسية والتاريخية، لا يعني أبداً أنك كنت هناك !! . ربما من زارها ولم يتقصد القراءة عنها يعرف أكثر. وهذان الشخصان بتكاملهما قد يشكلان تصور أكبر عن هراري. لكن اختلافهما في وجهات النظر قد تؤدي إلى صدام فكري، لأن تحليل العقل البشري للأشياء يختلف من إنسان لآخر.
كما نحن نختلف في شرح مناهج الإسلام ….. بكل أسف ….. لم نعد نعلم الحقيقة فيها من الابتداع
فلماذا لا تأخذ يدك بيدي، ونجمع الحقائق -المجردة- ونستخلص منها ما يوافق فطرتنا … وإن كان من صدام، فلنضيق حدوده، ونبقي إنسانيتنا أكبر من صدامنا.
فأنت أخي في الله …… وقضيتنا واحدة ……… وهي الإسلام
وأخيراً .. اللهم لا تجعلنا في عداد من قلت عنهم :
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [البقرة : 44]
كتبت في 28 سبتمبر 2006